ليس كأي مسجد هدم من قبل آلة الحرب الإسرائيلية بذريعة إختباء مقاتلين فيه, وليس كمثل المساجد الأخرى التي تحمل أسماء ولا تمت بالضرورة الى واقع المسجد, فمسجد النصر الواقع في بيت حانون, اسم على مسمى وإن هدم فقد إنتصر.
بني هذا المسجد قبل ثمانية قرون بأيدي وسواعد أبناء المنطقة, وسمي بهذا الإسم تيمنا وإفتخارا بالنصر الذي حققه المسلمون على الصليبيين قبل ثمانية قرون وأكثر, في معركة سميت بمعركة أم النصر والتي جرت أحداثها بين غزة اليوم وعسقلان. وقد بني هذا المسجد عام 637 هجرية, وبقي حتى يومنا هذا وما زال شامخا مئذنته رغم أن معظمه دمر على يد الإحتلال الإسرائيلي في الإجتياح الأخير على القطاع.
الشيخ أبو زريق, إمام المسجد, اعرب عن أسفه وحزنه على ما جرى للمسجد. ويردد الشيخ الرواية التي عاش أحداثها خلال الإجتياح التي أخبرها لوكالات الأنباء حيث حكى لهم عن كيفية هدم المسجد على من فيه.
يقول أبو زريق أن جيش الإحتلال لم يأت لكي يقضي على المقاتلين بشكل خاص فقد قتل أطفالا ونساء وشيوخا, وقد هدم مسجدا دون ان يقترف المسجد أي ذنب ودون أن يهاجم المسجد أي جندي إسرائيلي. ولعل جمل هذا الشيخ, إمام مسجد النصر وهي الجمل التي تلخص وتعبر عن واقع الإستراتيجية لدى العسكري الإسرائيلي, ولعل هذا الأمر يعود فينا لنفكر قليلا ونعود الى كتب علم النفس لنرى دوافع هذه التصرفات في لحظات حلكة وصعبة, وكيف لها أن تعكس صورة الجندي الإسرائيلي لا سيما الجندي يهدم مسجدا على من فيه والجندي الذي لا يفرق بين مقاتل وطفل من أطفال بيت حانون.
الجندي الإسرائيلي والذي ترعرع على أيدي أمهر جزاري القرن الماضي, والذي فتحت له أبواب النجاح على مصراعيها, هو ذاته الجندي الذي أعد لنفسه صورة الجندي الذي لا يقهر الى أن غيرت هذه الصورة حين خاض حربا ضد "مغامرة" قام بها رجال المقاومة الإسلامية في لبنان ليثبت للعالم أجمع ان التدريب والعتاد والعقود التي عاشها الجندي الإسرائيلي في وهم الجندي الذي لا يقهر, كانت هراء وكلاما لا يتعدى حدود الورق الذي كتب عليه.
تصرفات الجندي الإسرائيلي, ما هي إلا أنعكاس للجمهور الإسرائيلي. تلك التصرفات التي لا أجد لها وصفا محدد, فتارة تكون إرهابية بكل ما للكلمة من معنى , وتراة أجدها وحشية وتارة أجدها همجية, بإختصار دعوني أطلق عليها, تصرفات إسرائيلية.
إنه لمن الخطأ التصديق بأن التصرفات الهمجية التي تقوم بها القوة العسكرية الإسرائيلية, دفاعا عن النفس. لأنها تفتقر الى المصداقية أمام أطفال بيت حانون وقانا وغيرها من المناطق. فهي ليست دفاعا عن النفس, وإنما تغطية لجرائم وحشية همجية, ضاربة عرض الحائط كل الإتفاقيات الدولية التي تحرم التعرض للمدنيين في الحروب.
العقلية المتعجرفة للجندي الإسرائيلي والتي تكدست على مر السنوات الماضية والتي دعمت من قبل الغرب بعد العدوان الثلاثي, مرمغت في تراب بنت جبيل, ومارون الراس, وعيترون. حيث صار الجندي الإسرائيلي يتمنى أن يعود جنينا في بطن أمه. لكن الدرس الأخير لم يكن كافيا لدى الجنرالات الإسرائيليين, فما أن أتيحت الفرصة حتى رأينا جيش الإحتلال بأكمله يحاصر بيت حانون ويقصفها ويضيفها الى قائمة المجازر, بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
أما الجندي الإسرائيلي, والذي ما زال يتعالج لدى أطباء النفس وإختصاصيي الطب النفسي, فإنه يفكر في الإنتقام من خسارته الفادحة في حرب لبنان الثانية, والسعي في تدريبات لعله بعدها يخوض في حرب لبنان جديدة.
ها هو الجندي الإسرائيلي, وها هي آلة الحرب الإسرائيلية يتماديان ضد الشعب الأعزل, لتصل درجة الوقاحة الى أن يهدم مسجد على من فيه من محتمين ومختبئين. وكلمة وقاحة تطابق تماما هذه الفعلة الشنيعة, فالإمام أبو زريق صدق حين قال أن الجيش لم يأتي فقط للقضاء على المقاتلين, فقد قتل الأطفال والنساء والشيوخ, وحتى أناس عاديون إحتموا في المسجد والتفسير المنطقي لهذه الخطوات من جيش الإحتلال هو التفريغ النفسي عن الأعصاب التي لم تستحمل أن تقوم ثلة من شباب المقاومة الإسلامية في لبنان تعليقهم بين الجحيم والنار طيلة ثلاة وثلاثين يوما.
هدم المسجد ليس إلا محطة تفريغ أمراض نفسية كانت أعراضها العجز العربي عن صد هذه "القوة" التي لا تقهر وكان العلاج عند حزب الله. الا ان الجرعة التي أسقاها رجال الله في الميدان للجندي الإسرائيلي, جعلت الجنود الإسرائيليين يتعطشون الى جرعات أخرى. هذا التعطش تحول الى كلب مسعور, تمثل في الدبابة التي لم تجد نفسها في بيروت كما وعد أولمرت وإنما فوق أنقاض أطفال بيت حانون لتثبت أنها أحط وأنذل آلة حرب عسكرية.
دمر المسجد كاملا وبقيت المئذنة وبقي أسمه يعلو رغم أنف الإحتلال, فمسجد النصر لم يبنى على فائض اموال مصاصي الدماء كما في أماكن أخرى, ولم يبنى تخليدا لذكرى شخص ما, بل بني من أجل أن تقام فيه الصلاة, وأن ترفع فيه كلمة الله.
أبو مازن توعد بإصلاح المسجد, وعسى أن يفعل ذلك. مأذنة المسجد خير دليل على شموخه رغم الحصار والإحتلال والإجتياح, مأذنته تعبر عن النضال والكفاح, رغم هدم المسجد كله, إلا أن المئذنة تشهد على النضال والكفاح سابقا وحديثا, تدل على دماء الشهداء, وعلى التضحيات العظيمة التي يقدمها الشعب الفلسطيني كل يوم, فهي مئذنة مسجد النصر.